مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة
مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة متنوعة بتنوع الأغراض الشعرية والشعراء ذاتهم وتنوع الأساليب الخاصة بكل شاعر، بجانب اختلافها بين شعراء الحضر وشعراء البادية وتنوع الأساليب بتنوع المعطيات.
كما قد ظهرت طرق منحرفة في التجديد حتى إنهم بدأوا بالسخرية من التراث الشعري القديم وزادوا غلو في التحرر حتى أنهم ألحدوا عن الدين الإسلامي ذاته في شعرهم، ونقابلهم على النقيض بعض الشعراء الذين تمسكوا بالتراث ورفضوا كل التجديد.
في هذا الموضوع على موقع ايوا مصر سنتاول بعض من مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة والبواعث عليه.
مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة
في كتابة (تقليد وتجديد) تناول عميد الأدب العربي طه حسين مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة من وجهة نظره أنه يبدأ من العصر الإسلامي (صدر الإسلام)والعصر الجاهلي وما هو إلا امتداد لما في تلك العصور.
التجديد في العصر الجاهلي يكمن في اتصال العرب بالحضارة اليونانية الرومانية بعد انتشارها بحضارتهم حول بلاد الشام والعراق، لكن لا يعرف المؤرخون بالضبط متى كان هذا الاتصال وإلى أي حد وصل هذا التأثير على حيوات العرب اليومية، وأهم تلك المظاهر هي انتشار الديانات المسيحية واليهودية في شبه الجزيرة العربية.
كان صدى هذا الاتصال في التجديد في الشعر العربي بأن أخذ العرب عن الروم وصف أدوات شرب الخمر ومجالسها فنجد عنترة بن شداد يقول:
“ولقد شربت من المُدَامة بعدمـا *** ركد الهواجر بالمشوف المُعْلَـمِ
بزجاجة صفراء ذات أسـرّة *** قُرِنت بأزهر في الشَمال مُقـدم”
أما في صدر الإسلام كان التجديد يسير جدًا فقط يتمثل في التخاصم في أغراض جديدة وهي الدين والدفاع عنه أو الذم فيه، بجانب البعد عن الفحش في القول في بعض الأغراض الشعرية.
بينما يتمثل التجديد في العصر العباسي من وجهة نظره في:
- ملائمة الشعر للغناء.
- المرونة والسهولة في القوافي والألفاظ.
- الإكثار من غرض الغزل في الشعر.
- الابتعاد عن الأوزان الطويلة وتخفيف الأوزان الشعرية المعروفة لهم.
- الاهتمام بالمعاني التي تحقق الإمتاع الفني
أسباب التجديد في الشعر العباسي في رأي طه حسين
بعدما تناولنا رأي الدكتور طه حسين في مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة نذكر أنه قد عدد أسباب هذا التجديد في عدة نقاط هي:
- دخول الموسيقى والغناء إلى الثقافية العربية.
- الانتقال إلى المدن والابتعاد عن البادية.
- الاتصال بالثقافات الفارسية واليونانية بشدة.
نظرة عامة عن التجديد في شعر القرن الثاني
في كتابه (اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري) تناول الدكتور محمد مصطفى هدارة مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة بصورة تفصيلة بتأصيل تاريخي والأدلة الأدبية وأهم تلك المظاهر:
- ظهور الشعر السياسي.
- انتشار المدح مقابل المال.
- انتشار شعر الرثاء للخلفاء وذويهم بعدما كان قاصر على أقارب الشاعر.
- بداية وازدهار شعر الشعوبية والحط من الأجناس الأخرى، والرد عليه بشعر يحط من الجنس العربي.
- دخول ألفاظ غير عربية إلى الشعر العربي.
- كثرة شعر الغناء.
- سهولة الألفاظ والأوزان الشعرية.
- ظهور شعر الاحتفالات.
- الغلو الشديد في شعر المدح.
- الابتعاد عن الشريعة الإسلامية في الشعر وظهور المجون والإلحاد والزندقة.
- ظهور الطابع التعليمي في الشعر خاصة في شعر الزهد.
- طول القصيدة بصورة مبالغ فيها.
- ظهور شعر الطرديات، التي تصف رحلات صيد الخلفاء والأمراء للصيد.
- الإكثار من غرض وصف الخمر في القصائد مما ظهر شعر الخمريات.
- الانتقال من الغزل العفيف إلى الغزل الفاحش بالوصف البذيئ والتفصيل في جسد المرأة.
- السخرية والهجاء انتشر كثيرًا في شعر القرن الثاني، بجرأة كبيرة بين الشعراء فيه.
- في بعض الأحيان كان يخرج بعض الشعراء عن القافية العربية الأصيلة ويتحررون منها في شعرهم، إلا أنهم لاقوا نقدًا لازعًا.
- التأثر بالقرآن الكريم في شعر الزهد.
- الاهتمام بالصنعة الشعرية من زخرفة الشعر بالمحسنات البديعية بطباق وجناس.
- ظهور الأسلوب القصصي في الشعر.
- في بعض الأحيان كانت القصيدة تقتصر على غرض شعري واحد.
كانت تلك أهم مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة لكنها نتيجة لتأثيرات واضحة أخرى بعيدة عن الأدب، فالنتاج الأدبي والشعر خاصة هو مرآة للمجتمع ونتاج عصارة فكره.
المؤثرات في تجديد الشعر في القرن الثاني
العوامل التي أدت إلى بزوغ مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة تتمثل في أربع أسباب هي:
السبب الأول: التأثير السياسي
من الطبيعة البشرية المتأصلة في النفس البشرية هي المعارضة السياسية، وبدأت بوادر الاختلاف منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاختلاف في السقيفة على الخليفة إلا أن المسلمين الحمد لله تداركوها سريعًا، وأكبر الأحداث السياسية التي أثرت على الحياة عامة والحياة الأدبية خاصة في العصر العباسي (القرن الثاني) هي فتنة مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه.
بعد ذلك الفتنة التي حدثت والحرب التي وقعت بين علي رضي الله عنه ومعاوية التي انتهت بحكم الأمويين و التطاحن الذي حدث بين المسلمين والانشقاق السياسي كنتيجة لسياسة التحزب التي جرى عليها الأمويين و شجعوها بين المسلمين.
كذلك استخدام العطاء المالي الذي تم اغداقه على فئة خاصة وحرمان فئات أخرى منه، وتقرير مبدأ التوريث في الخلافة.
التفرقة السياسية في المناصب والمراكز القيادية بين الجنس العربي والأجناس الأخرى التي كونت تفاخر لدى العرب بنفسهم وحنق لدى الأجناس الأخرى الذين دخلوا الإسلام وتحدثوا باللسان العربي.
كان لكل تلك العناصر عظيم الأثر في تطور الشعر في العصر العباسي الثاني واختلافه عن الشعر القديم كليتًا.
السبب الثاني: التأثير الاجتماعي
بعد انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها في العهد الأموي واستقرار الدولة في العهد العباسي بصورة كبيرة؛ خرج العرب بثقافتهم من الجزيرة العربية إلى الأمصار الإسلامية واستقروا فيها وتزوجوا منهم ونشأ جيل يحمل الثقافة العربية بجانب خليط من ثقافات أخرى.
حتى أن الجزيرة العربية ذاتها لم تسلم من هذا التأثير فقد وفد إليها عدد كبير من الأجانب سواء مسلمون للحج واستقروا بها أو عن طريق العبيد والرقيق الذين استقروا بشبه الجزيرة العربية حاملين معهم ما في مجتمعهم من ثقافات وعادات غريبة.
بعد انتقال العرب إلى الأمصار الجديدة وامتلاكهم للأراضي الضخمة وزراعتها ونشأة المدن؛ ظهرت طبقة جديدة من العرب (الأعيان) التي تمزج بين الاستقراطية لأنهم عرب وكثرة المال وعدد الأتباع الكثيرون، وبسبب هذا تقسم المجتمع العربي إلى:
مع الصراع الطبقي بين أطياف المجتمع الإسلامي، وحركة التعريب الكبرى عن طريق السبي وتعليم الموالي العربية أو عن طريق الزواج من الكتابيات من فارس ومصر وغيرها، ولا ينظر أحد إلى المجتمع في العصر العباسي الثاني إلا ويلحظ التأثير الواضح للغزو الفارسي على الثقافة العربية خاصة في العراق.
فنجد أن العرب في خرسان الذين انتقلوا إليها قد لبسوا ملابسهم من سروايل وخلافه وشربوا من خمرهم واحتفلوا بأعيادهم مثل النيروز، وهذا ظهر جليًا في الشعر، فنجد أبو نواس يقول:
“سَقى اللَهُ أَيّاماً وَلا هَجرَ بَينَنا *** وَعودُ الصِبا يَهتَزُّ بِالوَرَقِ النَضرِ
يُباكِرُنا النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى *** بِنَورٍ عَلى الأَغصانِ كَالأَنجُمِ الزُهرِ
يَلوحُ كَأَعلامِ المَطارِفِ وَشيُهُ *** مِنَ الصِفرِ فَوقَ البيضِ وَالخُضرِ وَالحُمرِ
إِذا قابَلَتهُ الريحُ أَوما بِرَأسِهِ *** إِلى الشَربِ أَن سُرّوا وَمالَ إِلى السُكرِ”
ظهور تيار المجون والإلحاد في المجتمع الإسلامي
بعدما وصل الخليفة العباسي الوليد بن يزيد بن عبد الملك في بدايات القرن الثاني الهجري، فأمعن مع من حوله في مظاهر الحياة الجدية والتحلل من الأعراف الدينية الإسلامية وفي بعض الأحيان الشريعة الإسلامية كليتًا.
فنرى أن الوليد قد نصب مبنى مثل الكعبة ويجلس فوقه مع ندمائه للشراب، أو أنه يرسل إلى الكوفة ليطل الشعراء المنحلين الزنادقة ليكونوا في بلاطه، فنجد أن من نتاج هذه الحركة أشعار نحو قول أبي نواس:
“دع المساجد للعباد تسكنها *** وطف بنا حول خمار ليسقينا
ما قال ربك ويل للذين سكروا *** ولكن قال ويل للمـصلينا”
بل أنه أظهر شذوذًا جنسيًا واضحًا وتغذزل بالذكور، مثل قوله:
“مستيقظ اللحظ في أفنان وسنان *** قبلت فاه فحيَّاني بريحان”
مستبعد للأماني حسن منظره *** عف الضمير ولكن لحظه زان
يا من تأنق باريه وصوَّره *** دعصًا من الرمل في غصن من البان”
ظهور تيار الزهد
كنتية مقابلة للمجون الشديد والانحراف الذي ظهر في الدولة العباسية الذي انعكس على النتاج الأدبي من شعر وأدب،ظهر تيار الزهد والتمسك بالدين، الزهد في اللغة العربية هو فقد الرغبة أو عدمها في الشيء أما في الاصطلاح فالزهد هو الحنين إلى المصدر الأول للحياة ومعرفة الله تعالى والبعد عن اللذة الدنيوية.
فكما يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية: “الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة”
فهذا الاتجاه كان أثره واضحًا في الشعر العربي، فنجد أن أبو نواس ذاته من قال:
“يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً *** فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ *** فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً *** فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا *** وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ”
حتى أنه في الغزل قد يظهر الجانب الديني جليًا، فنجد أن العباس بن الأحنف يقول:
“وَهَيَّأتِ القَطيعَةَ لي فَأَمسى *** جَوابَ تَحيَتي مِنكِ السِبابُ
وَإِنَّ الوُدَّ لَيسَ يَكادُ يَبقى *** إِذا كَثُرَ التَجَنّي وَالعِتابُ
خَفَضتُ لِمَن يَلوذُ بِكُم جَناحي *** وَتَلقَوني كَأَنَكُمُ غِضابُ”
فنجد أن التأثير واضح من قوله تعالى: “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” (الإسراء 24)
السبب الثالث: التأثير الثقافي
بعد اختلاط العرب بالعجم امتزجت الثقافات واللغات بشكل كبير، خاصة وأن اللغة العربية مرتبطة بالنصوص الإسلامية فلا يمكن أن تختفي لذلك اختفت اللغات الأخرى وبقت ثقافات أهلها وتحولت إلى اللغة العربية، بجانب بقايا من الغات الأجنبية في اللغة العربية.
يظهر هذا التأثير جليًا في الشعر من بداية القرن الثاني الهجري إلى نهايات الدولة العباسية، فنجد أن أسود بن أبي كريمة يخلط في شعره بين اللسان العربي واللسان الفارسي نحو قوله:
“لَزِمَ الغُرّامُ ثَوبي *** بُكرَةً في يَومِ سَبتِ
فَتَمايَلتُ عَلَيهِم *** مَيلَ زَنكِيٍّ بِمَستي
قَد حَسا الداذِيَّ صِرفاً *** أَو عُقاراً بايِخَستِ
ثُمَّ كُفتَم دورَ بادٍ *** وَيحَكُم آنَ خَرِ كُفتِ
إِنَّ جِلدي دَبَغَتهُ *** أَهلُ صَنعاءَ بِجَفتِ
وَأَبو عَمرَةَ عِندي *** آنَ كَورَبُد نَمَستِ
جالِسٌ أَندَرَ مَكنادِ *** أَيا عَمدِ بِبَهشَتِ”
حتى أن شعراء البادية الذين من المفترض أن يكونوا أهل اللغة الصحية لم يسلم شعرهم من الخلط بين الألفاظ الفارسية والعربية فنجد أبي الينبغي يقول:
“إنما الدنيا كبيض *** عملوه نيمرش
فحشاه البرمكيو *** ن وقال الناس كشن”
حتى أن جرير الذي يُحتج بشعره في العربية قد ناله من تلك العلة ودخله شعره من الفارسية فنجد من أقواله: “لا خير في غضب الفرزدق بعدما *** سلخوا عجانك سلخ جلد الروذق”
كما أنه بعد انتشار الموالي والرقيق في الدولة الإسلامية واختلاطهم بالقيادات كان لهم دور خطير في إدخال الألفاظ الغريبة إلى اللغة العربية وحتى ضياع بعض المفردات والتصريفات، فنجد أن أحد الشعراء كان يتغزل في جاريته الأجنبية فيقول: “أوّل ما أسمع منها في السّحر*** تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر”
فكان لهذا الأسلوب الرشيق السهل في لغة المولدين والموالي تأثير واضح على الشعر العربي واللغة كلها، ونجد آثاره واضحة في مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة.
السبب الرابع: التأثير الاقتصادي
أخر أهم الأسباب في بزوغ مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة هو الحالة الاقتصادية للبلاد فهو الذي يهيء لهم سبل التشاؤم والتفائل التي تنعكس على النتاج الأدبي عامة والشعر خاصة، وإذا كانت الدولة تعيش في رخاء اقتصادي يزيد لديها الشعراء.
كما أن أغراض الشعر تختلف باختلاف الحالة الاقتصادية للبلاد فيتحول الحال من شعر يتناول الثورة والحنق على باقي أفراد المجتمع إلى معان التغني بالطبيعة والاحتفالات والغزل ووصف التنزه والبساتين ووصف ألوان الطعام والشراب والأسواق…
فيبدأ القرن الثاني الهجري مرحلة التحول في الأغراض الشعرية من البداوة والخشونة إلى السهولة واليسر، وفي نهاية الأزمات بين الخلفاء تشقى البلاد وتفتقر لما يظهر لنا سبب قصائد الحزن والجفاء في فترة الخلاف بين الأمين والمأمون.
كما أن الرخاء الاقتصادي في هذا الوقت كان سببًا في ازدهاء شعر المدح كنتيجة مترتبة على كثرة العطاء الذي يبذله الخلفاء والأمراء للشعراء الذين يمدحونهم.
بذلك نكون قد قدمنا مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني للهجرة في رأي علماء الأدب الكبار والعوامل المسببة لهذا التجديد بجانب ذكر مقتطفات من النتاج الشعري لهذه الفترة، نرجو أن نكون قد أفدناكم.